
صحيفة همة نيوز : بقلم: الدكتور جابر الخلف ..
حفل مقال الأستاذ خالد بن فهد بن عيسى البوعبيد، الموسوم بـ”الإبل مدخل للثقافة العربية” بسردٍ أدبي تاريخي عبّر من خلاله عن عشقه للإبل بوصفها مدخلا لفهم الثقافة العربية، ومفتاحًا لاستظهار مكوّناتها الاجتماعية والأدبية. ومما أضفى على المقال قيمة ثقافية احتفاؤه بالرواية الشفهية التي سرد تفاصيلها عبر حواره مع أحد كبار السن حول ملامح الرحلات على الإبل إلى مكة المكرمة للحج نحو مكة المكرمة، وزيارة المدينة المنورة في نهاية الخمسينيات الهجرية من القرن العشرين.
وتجاوبًا مع ما كتبه الباحث التاريخي الأستاذ خالد بن فهد البوعبيد، واستجابة لأصداء مقالته القيّمة حول الإبل بوصفها مدخلا للثقافة العربية، وما دوّنته يراعتُه عن أطياف تلك الرواية الشفهيّة.. أحيّه -في هذا المقال- كما أشكره على مبادرته الشجاعة بتدوين تجارب الآباء والأجداد؛ حتى يستلهمها الأبناء والأحفاد.. فقد كان سبّاقًا مُجَلِّيًا في مضمار الكتابة حول سيرة الإبل في ثقافتنا المحلية كما يحكيها الأسلاف.
وتقديرا لجهوده.. أتقدم بهذا التعليق الذي أرجو أن يكون له مكانًا بين سطوره المشرقات.
الإبل: أخفافها مشاعل:
الخُفّ -في اللغة- اسم مذكر، يجمع جمع تكسير على “أخْفَاف”، و”خِفَاف”، وهو قدم البعير والنَّعام؛ ويكون بمثابة الحافر لغيرهما.
هذا في اللغة، أما في الشعر، فيقول المتنبي (ت354هـ):
إذا الليلُ وارَانا أرتنا خِفَافُها/
بقدْحِ الحصى ما لا ترينا المشاعلُ
ويقف الواحدي على هذا البيت شارحا، فيقول: إذا سترنا الليل بظلامه، أسرعت هذه الإبل؛ حتى تصطكُّ الحجارةُ بعضُها ببعض، وتنقدُّ النّار منها، فنرى بها ما لا نراه بضوء المشاعل.
وقبل المتنبي، قال الفرزدق (ت 110هـ):
تنفي يداها الحصى في كلِّ هاجرةٍ/
نفيَ الدراهيم تنقادُ الصياريفِ
هذا البيت من الشواهد النحوية، وهو شاهد على إشباع الشاعر الكسرة في (الدراهم)، و(الصيارف)، فتولد عن ذلك يا المد. فالناقةُ -كما في شرح ابن عقيل- تدفع يدها الحصى عن الأرض في وقت الظهيرة، واشتداد الحر، كما يدفع الصيرفي الناقد الدراهمَ، وكنّى بذلك عن سرعة سيرها وصلابتها وصبرها على السير، وخص وقت الظهيرة؛ لأنه الوقت الذي تعيا فيه الإبل، ويأخذها الكلال والتعب، فإذا كانت فيه جَلِدةً، فهي في غيره أكثر جلادة، وأشد اصطبارا.
هذان البيتان من مئاتِ الشواهد الشعرية في مدونة شعرنا العربي يثبتان أن العنوانَ الذي انطلق منه الأستاذ الفاضل أبي بندر في مقالته، كان عنوانا موفّقا، فقد أوجز فأصاب… وأجمل فأجاب!!
إنّ المتنبي قد جعل من أخفاف الإبل مشاعلَ؛ لكونها تصكُّ الحجارة بعضها ببعض، فتنير الليل البهيم، ويدا الناقة -لدى الفرزدق- تُفرق الحصى عند الظهيرة، كما يُفرق الصيرفيُّ الدنانيرَ.. فالإبل حاضرةٌ في (ليل) العربي وفي (ظهيرته)، كما أنها ماثلةٌ في استعاراته، وفي كناياته، وفي أمثاله.. بل إنها منبثةٌ في معجمه اللغوي، وفي أساليب تعبيره.. حتى لقد عمّت ألفاظ الإبل مجال التداول اليومي في أسماء رجالاتهم، وأسماء نسائهم، فقالوا: جِرَان العَوْد (عامر بن الحرث الضبي)، وهو مستعار من جران البعير (باطن عنقه)، وقالوا: الجاسر والجسور، وهو الشجاع الجرئ، (والجَسْر العظيم من الإبل)، وقالوا: هِنْد وهُنيْدة (وهي المئة من الإبل)… وغيرها كثير، وما هذه سوى أمثلة معبرة عن ثقافة التسمية لدى العرب، يمكن تتبعها في كتاب الاشتقاق لابن دريد الأزدي (ت 321هـ).
ولو تتبعنا أمثال العرب التي تردُ فيها أسماء الإبل (الجمل، الناقة، الحوار، البعير، البكرة) ومتعلقاتها؛ لوقفنا على عشرات الأمثال في الفصحى، ومثلها في اللهجة المحلية لكل مجتمع. ومن أمثال العرب التي نجدها هنا زاخرة بثقافتهم، وفيها نكتشف تمثيلات الإبل بوصفها مدخلا للثقافة، قولهم على سبيل المثال لا الحصر:
*ما هكذا تورد الإبل.
*هذا أمر لا تبركُ عليه الإبل.
*هذا أمر لا ناقة لي فيه ولا جمل.
*يخبط خبط عشواء.
*استنوق الجمل.
*لكل أناس في بعيرهم خبر.
*أمهلني فُواق ناقة.
*ما له ثاغية ولا راغية.
*جاؤوا على بكرة أبيهم.
*هما كَرُكبتيْ البعير.
*كالحَادي وليس له بعير.
*أساء رعيًا فسقى.
*اعقلها وتوكل.
*قصمت ظهر البعير
*أشربُ من الهيم
*حَرِّكْ لها حُوَارَهَا تَحِنُّ
*اتخذوا الليل جملا
وسأكتفي بإيراد الأمثال، دون الاستقصاء في شرحها؛ لكونها خِزانة تجارب الماضين مع الإبل، وكيف أنها مكوّن أصيل في ثقافتهم، وبالمثل أخبارها وأشعارها التي دونتها كتب التراث، ومنها كتاب مجمع الأمثال للميداني (ت 518هـ).
ختامًا.. إن هذا التداول اليومي لألفاظ الإبل ودلالاتها في تفاصيل الحياة اليومية لغةً وأمثالا وتعابير شعرية ونثرية (فصيحة وشعبية) تدلُّ دلالة قاطعة على انتشار تمثيلات الإبل وتصوراتها في الثقافة؛ ولذا أصاب كاتبنا في عدّها مدخلا لها.
فإذا كانت وزارة الثقافة -مشكورة- قد اختارت عام 2024م عامًا للإبل، فلا يعني هذا أن نتوانى في الأعوام اللاحقة عن الاهتمام بها بوصفها رمزًا ثقافيا، وهوية حضارية.. فمبادرة (الإبل عام 2024م)، مثلما مبادرة (الخط العربي عام 2021م)، ومبادرة (القهوة السعودية عام 2022م)، ومبادرة (الشعر عام 2023م).. إنها مبادرات تعبر عن قيمنا.. لكونها علامات ثقافية في تراثنا العربي.. كما أنها علامات حضارية في مستقبله الآتي.
فقد أشارت بعض الدراسات عن الإبل بأنها كانت موجودة في الجزيرة العربية قبل أكثر من 120 ألف عام، وهو ما تؤكده بقايا عظمية اكتُشفت في شمال غرب المملكة العربية السعودية.
.. أجدد الشكر لكاتبنا الفذ العزيز الأستاذ أبي بندر خالد بن فهد بن عيسى البوعبيد على جليل خطوته، وأصالة مبادرته، وروائع مقالته…