
صحيفة همة نيوز : عبدالله المطلق .
.
عندما تجلس مع كبير في السن من الآباء والأجداد ، وتطلب منه أن يذكر لك ماتبقى من ذكريات في ذاكرته عن بلدته القديمة التي رآها ، لاكما يراها الآن .. ينصت قليلاً ويخرج الزفرة تلو الزفرة ، الله على أيام زمان !! أيام مرة وصعبة ، ومع ذلك فهي حلوة في وقتنا ، نعم .. لكن ماذا اصف لك من ديرتنا القديمة التي أصبحت الآن ذكريات من الماضي القديم !! أصبحت إذا مررت في أزقتها وسككها أرى وجوهاً كأني أنا الغريب عن هذه البلدة !! فقد سكنها الكثير من الناس الذين وفدوا إليها من القرى المجاورة !! ولكن هذه ضريبة التطور والتمدن ، لأن أولادنا انتقلوا إلى أحياء أخرى في مدينة الطرف أحياء حديثة راقية ، تتوافر فيها كل مطالب الحياة ، ولكن هذه الحياة .. ولكن تظل بلدتنا القديمة نحن لها بين الحين والآخر ، نشم رائحة الطين ، ونتحكك بالجدران عندما تتساقط الأمطار خوفاً من أن تتبلل ثيابنا بالمطر ، نعم وتظل سكك وأزقة ديرتنا القديمة ، التي مازلت أتذكر منها مع بعض البرايح والسكك والأزقة ومن هذه البراحات :
1- براحة سياله.
2- براحة المهنا .
3- براحة الوصيلي .
4- براحة الشعيبي .
5- براحة الجوهر .
6- براحة الخيل ( العسكر) .
7- براحة الشرقية .
هذه الأحياء أو البراحات أو الحارات تمثل تجمعات سكانية منتشرة في أرض مدينة الطرف منذ بداية نشأة مدينة الطرف في القرن التاسع الهجري وحتى الأربعينات الهجرية (1340هـ) تقريباً ، يتم الوصول إليها من خلال سكك وأزقة وممرات ضيقة يمر فيها الناس ، وينتقلون من حي إلى حي ومن براحة إلى براحة ، وعندما ترجع بالذاكرة إلى الوراء ، ويطلب منك أن تصف الحارات القديمة وما تحتويه من سكك وأزقة وسباطات ودواعيس ، ومساجد وبراحات ، ومحابس يجلس عليها .. وترى الناس وهم في رواح وغدوة كل في سبيله حتى البراري التي تحيط بالمدينة ، فيها حركة الأنعام بمختلف أنوعها والطيور بأنواعها تشاطرك الطيران ..لكن هناك من الطيور الداجنة التي تقتات من الأرض مايسد جوعها ، تتحرك على الأرض لتقول لك أنا هنا حتى لاتنساها من مفكرتك وذكرياتك التي سوف تسطرها بعدما تحط على الأرض ..وعندما تريد أن تبدأ لتصف ماطلب منك فالسبيل الوحيد إلى ذلك هو الورقة والقلم ..والمحبرة التي تغذي القلم .. فيبدأ القلم بالكتابة ..الكاتب يحضر بخياله وفكره الذي يسطره على الورق بكلمات الوصف الدقيق لما رآه وشاهده بعينه من اطلال آثار وبيوت على الأرض وهو في فضاء السماء ..
يتذكر فيها تلك الساعات التي قضاها وهو بين السماء والأرض ، ليكتب ويروي حياة الآباء والأجداد ؛ التي أصبحت ذكريات من الماضي !! لكن ماضي غني بالخبرة والتجربة والذكريات والرسومات ، والحياة القاسية التي جعلت من هؤلاء الرجال أقوياء ، ونفوسهم عزيزة ، وهاماتهم مرفوعة شامخة كشموخ الجبال التي لاتهزها الرياح مهما عصفت في أي اتجاه !! نعم هذا هو الكبرياء والأنفة والعزة ، لإيمانهم بأن من يسعى للرزق الله كفيل بأن يرزقه من نبات الأرض ، أو من البحر في أي بقعة من بقع الدنيا ..لكن يظل وطن الإنسان هو الوطن الأصلي الذي تحن له شغاف القلب .
قريتي الصغيرة التي لم تعد صغيرة !! وقريتي الصغيرة التي لم تعد الا بلدة أو قل مدينة !! بدأت تزحف نحو الحضارة ، وتماثل المدن المتوسطة والكبيرة ، قريتي التي تربيت وترعرعت فوق أرضها ، وألتحف سمائها ، أصبحت أرى فيها وجوها غير الوجوه المألوفة لي في نظراتي اليومية !! بل أرى وجوه تنظر لي بأني غريب عن هذا المكان !! لماذا أنت هنا ؟؟ تغمزني بنظرات الإستغراب !! فكأنني أنا الغريب عن ابن هذه القرية ! التي طالما ذرعت أرضها ذهاباً وإياباً !! ولكن هذه ضريبة الحضارة ، وضريبة التطور أن تكون مواطن يجاورك مواطن مثلك ..كانت له ذكريات في أرض مولده ، لكن ظروف الحياة جعلت من هذه الأرض وطناً له ، يشاطرك الحب وأنت تشاطره الحب ، ليعيش الجميع في وطن آمن .. هكذا الحياة عندما تجبر الإنسان أن يعيش في موقع آخر لكنه يشعر بأنه يعيش في وطن واحد ، ويشعر بالأمن ، ويشعر بأنه صاحب حرية مفتوحة بعد أن كان في موقع محصور بين مسكنه ونخله ، يفتقد للحرية !! أصبح في موقع تتوافر فيه كل متطلبات الحياة ، في مدينة تتوافر فيها كل متطلبات العيش الرغيد ، ماء وكهرباء وهاتف ، وصرف صحي ، ومدارس بجميع مراحلها ، ومحال تجارية أينما اتجه يستطيع أن يشتري حاجاته بيسر وسهوله ..
نعم وأنا ما زلت أطير في فضاء السماء ، أفكار تتوارد في ذهني !! لكن لابد من النزول على أرض الواقع ، لأصف قريتي الصغيرة التي ربما لم يعرفها أبنائنا في الوقت الحاضر ، بل يقرأون عن القرية في كتب المدرسة ، ولكن الوصف من واقع معايشة على الطبيعة ربما يغير فكر شبابنا ، الذي يتمنى أن تكون حياتهم حياة رفاهية ، لا يريدون ذكريات الماضي التليد ، وحكايات من الماضي الأليم !!
لكن مازلت أصر على أن أروي عشقي وعشق الآباء والأجداد لهذا الماضي التليد !! فماذا عساي أن أقول لهذا الجيل المحظوظ بثورة التقنية ، عن الأحياء الشعبية في مدينة الطرف ومفردها ( حي ) ، أو قل ما نسميها بالفرجان ومفردها ( فريج ) أو عن مزارع النخيل التي تحف البلدة في جانبها الشمالي والغربي والجنوبي وجداول الماء العذب في مجرى واسع أو ضيق يروي هذه النخيل الواقفة التي تعانق السماء في عز وكبرياء ، أو البساتين التي تحف أسوار البلدة القديمة والمزارع التي تحف البلدة من الشمال حتى الجنوب في شريط طويل ، ونتذكر عين برابر التي تسقي نخيل الطرف ممتدة في مجرى طويل تبدأ من شرق مدينة الهفوف في موقع يسمى ( الزبدا) وتمر على مجموعة قرى منها : بني نحو – وبني معن – والشهارين – والمنصورة – والمنيزلة – والفضول –والمزاوي – والعقار والجفر وتتفرع إلى في موقع يسمى اليامودي أو السكرة ، ثم تصل إلى نخيل الطرف فتتفرع الى فروع عديدة نشرب من هذه الجداول العذبة ..
أيام وليال أفكر في طريقة حتى أتقمص شخصية ضيف ، أو شخصية أجنبي رحال ، أو زائر للأحساء من أجل التعرف على ماتحويه أرض الطرف من كنوز ؟؟ الدروازة الغربية – الدروازة الشمالية – الدروازة الشرقية – الدروازة الجنوبية !! ذات الأسوار العالية والأسوار العالية الرفيعة تتخللها مزاقل التي من خلالها تكتشف العدو تراه دون أن يراك ! والمزاقل عبارة عن فتحات في السور تحيط ببلدة الطرف في جميع الإتجاهات ..جدران سميكة يغيب فيها الرصاص المصوب تجاه السور الذي حمى البلدة من طمع الطامعين وقطاع الطرق واستوقفتني البوابة الغربية ، أو ما تسمى بالدروازة الجبلية .
فكرت كثيرا من أي بوابة أدخل وأخيرا إهتديت الى البوابة الغربية ( الدروازة الجبلية ) فهل نستطيع أن نتقمص شخصيات الآباء والأجداد ، من خلال هذا العرض القصصي السردي نتجول في سككها وأزقتها ودواعيسها وشوارعها من العهد الماضي للعهد الحاضر .


