صحيفة همة نيوز : بقلم الكاتبة أمل الحربي ..
عندما أرادوا تحضير الفنان ( (نجيب الريحاني )) والملقب بزعيم المسرح الفُكاهي المشهد البكاء على خلفية أغنية ( “عاشق الروح )” في فيلم ( “غزل البنات )”1949 م،
أَحضر له المخرجُ قطرة الجلسرين كما جرت العادة في السينما؛ لأن المشهد يتطلب أن يبكي متأثرًاً مع كلمات أغنية الموسيقار ( (محمد عبد الوهاب )) .،
فرفض الريحاني وقال: لهم: لا، لا داعي للجلسرين.. اتركوني بعض الوقت وسأكون مستعدًاً ،. أن لدي ما يكفي من الهموم مما يجعلني لا أحتاج إلى اصطناع البكاء ،.. فقط جهِّزوا الكاميرا، وعندما أكون مستعدًا سأشير لكم، فتركوه برهة ،، وجلس وحيدًاً يُتمتمُ كأنهُ يُحدِّث نفسه ،، ثم قام وقال: أنا مستعد الآن ؟؟ فأجابوا بالإيجاب، ودارت الكاميرا، فبدأ وجه الريحاني في التقلب حتى انهمر بالبكاء وسط دهشة الحاضرين ..
بعد التصوير سأله الموسيقار (محمد عبد الوهاب )): كيف فعلتها يا أستاذ؟ ! فأجاب : الريحاني: إن بداخلي من الجروح الكثير، كل ما أفعله أن لاأتذكر واحدة منها فأبكي.
ويقال: إن ( (كارولينا )) المهرج الإيطالي ذهب إلى طبيب نفسي يشتكي من القلق والحيرة ،، وبعد أن أنصت الطبيب قال له : يوجد مسرح في مدينة (نابولي )) فيه مهرج جيد، ومضحك. أنت تحتاج لتغير الأجواء، واسم المهرج (كارولينا) فقال: له المريض أنا (كارولينا)!
ليست المصادفة في كلتا القصتين في قدرة المُمَثلَين على الإضحاك رغم ما بداخلهما من حزن، وكآبة، ولا رسم الابتسامة رغم كمية الألم؛ ، لأن هذا الأمر طبيعة تفرضها طبيعة عملهما في التمثيل أو السيرك ..
في النهاية نحن ردة فعل لكل ما يحدث لنا في الحياة ،. نحن نتغير باستمرار ،. تغيرنا الكلمات ،، المواقف ،، تقلبات الحياة المختلفة ..
من أسوأ الأيام التي تمر بنا أن نضطر لأداء مهامنا بالحياة وكأنه لم يحدث شيء، في حين نتمنى توقُّفها تمامًاً ،، لأن في داخلنا عوالم متصارعة ،، آهات متراكمة ،، وصراخات غير مسموعة ..
حينما يُفرض عليك أن تُصفِّق جذلًاً ويداك مقيدتان بالبؤس ،، وتبتسم ابتهاجًاً وعيناك مغرورقتين بالدموع ،، وتتراقص طربًاً وقلبك مهشم باليأس .،
تستمر ساقية الأيام تتحرك كالمعتاد دون أن تراعي خطواتك الثقيلة ،، ، وتشرق الشمس غير مبالية لوجهك المكفهر ،، ويثير عمال الشوارع الضجيج حولك غير مكترثين لحاجتك إلى اللهدوء ..
لا أحد يعلم كيف تتهاوى الأيام الثقيلة على روحك ،! ،ولا لعمق الحفرة التي حفرها الألم داخلك ،، ولا ضجيج الأرق الذي يُسهرك ..
لا أحد يعلم عن الجزء المبتور من الحكاية ، ،، ولا أحد يعرف شيئًاً عن أبطال قصتك المخفية ،، وقوة الصراع بين شخوصها وإلى أي مرحلة وصلت العقدة في قصتك ،، و كيف سينتهي الفصل الأخير منفيها؟!.
ومهما كان اإحساسهم بك ،، ومحبتهم لك لن يقدِّروا الحرب العنيفة التي تدور في رأسك ،، ولا النزاعات الشرسة التي تدور في أعماقك ..
لا أحد يعلم كم بذلت من الجهد لتبدوا أمامهم بكل هذا الثبات! ، ولا الطاقة التي استنفذتها لتجاملهم ببعض الكلمات ،، والعناء الذي استهلكته لترسم ابتسامة ساذجة على ملامحك الجامدة .،
وكم مر من الوقت وأنت تطارد أشتاتك !، وتجمع بقايا صمودك ،، وتشحذ فتات كبريائك .!
لا أحد يتخيل كيف أنك ابتسمت لنكتة ساذجة من ذاك ! ، واسمعت لثرثرة سخيفة لا شأن لك بها لتجامل هذاك ،وأنت تقاوم رغبتك في أن تضع يدك على فمه ليصمت ، أو أن تضع أصبعيك على أذنيك ليتوقف .
تظل معاناتك داخلك بدءًا من اللحظة التي تستيقظ فيها و تقف أمام المرآة تُسرِّح شعرك ،، وتحكم إغلاق أزارير قميصك قبل مغادرة المنزل ،، وحتى دخولك عملك ،، مرورًا ًبالمقهى الذي تبتاع منه قهوة الصباح ،، وانتهاء بالبقالة الصغيرة التي تتوقف عندها في العادة لشراء بعض المستلزمات اليومية قبل أن تعود إلى المنزل من جديد ،، وترتميى على سريرك نهاية اليوم ..
نحن لا نعرف عن الآخرين إلا ما ظهر منهم بقصد أو من دون قصد ،، كأسمائهم ،، أعمالهم ،، حالتهم الإجتماعية ،، ردود أفعالهم في المواقف المختلفة ..
لا نعرف عن المشاعر التي كُتب عليها الكتمان ،، والقصص سجينة النسيان ،، والدموع الصامتة خلف الجدران ..
لا نعرف سر الهائلات السوداء تحت أعينهم إلا السهر ،، ولا سبب التجاعيد في وجوهم إلا السنوات ،، ولا تجهم ملامحهم إلا غلاظة طبائعهم ..
وفي الحقيقة ليس الأمر كما يبدو لنا، فهناك أعماق لم تُسبَر ،، وقصص لم تُحْكَِ ،، وعوالم خفية لم تُكتشف ..
لذا فإأن إنسانية تعاملك ،، ولطافة كلماتك ،، هدوء ابتسامتك ،، انسحابك من الجدل عندما تلمح حزن الطرف الآخر ،، قبولك للعذر مع بالرغم من تفاهة الأسباب ،، تجاهلك للعتب في موقف مستفز، تظاهرك بالغباء في أمر لا يتطلب الكثير من الذكاء .،
مراعاة مشاعر الطرف الآخر عندما تخونه الكلمات ، أو يُنهكه التبرير ، أو تخجله تصرفاته ،أو تسقطه ساذجة عقله .،
التقاطك لتلك الإشارات البسيطة ،، دمعة تلمع عينه ،، لحظة أسف في نظراته ،، وقفة تلعثم كلماته ..
فتكون يديك منديلًاُ لدموعه ،، وحضنك موؤاساة لوجعة ،، وكلماتك تقف لتعانقه ..
لمساتك الخاصة لمن حولك في أيامهم الصعبة ، تُخلِّد لك صورة ذهبية في الذاكرة، وتجعل لك بريقًاً في وجوهم ،، ونموذجًاً فريدًاً يستوجب توقيره واحترامه في أعرافهم ،، وسيمفونية جميلة يستطيب سماعها .،
يسعد بمقابلته ،، ويتشرف بخدمته ،؛ لأنك ببساطة حوَّلت المعاناة إلى للتأمل ،، وجعلت أوجاعه باردة ،، فأصبحت مضيئة رغم الشحوب ،، مبتسمة مع المرض ،، فتية تصارع أشباح كهولتها ..
يقول الدكتور مصطفى محمود: “إ
(أن الرحمة أعمق من الحب وأصفى وأطهر ،، هي عاطفة إنسانية راقية مركبة ،، ففيها الحب ،، وفيها التضحية ،، وفيها إنكار الذات ،، وفيها التسامح ،، وفيها العطف ،، وفيها العفو، وفيها الكرم ،. كلنا قادرون على الحب ،، وقليل منا هم القادرون على الرحمة”.) ..