
صحيفة همة نيوز : بقلم : أ. عبدالله حمد المطلق ..
.. الدراويز بوابات الحنين
كلما دخلتُ زقاقًا من أزقة الديرة القديمة، شعرتُ أن لكل زاوية حكاية، ولكل بيت رواية، تروى للأجيال القادمة كأنها من نسج الحكايات، لكنها الحقيقة التي سكنتها القلوب، وسكنت في القلب.
حينما تقودك الخطى داخل الديرة القديمة، لا ترى حجارةً وطينًا فحسب، بل تقرأ فصولًا من التاريخ منقوشة على الأسوار، وتستمع لهمس الزمن من خلال ثقوب الجدران وأبراج المراقبة، كأن كل زاوية هنا تحرس سرًّا من أسرار الطرف، وترويه لمن يصغي بقلبه.
- أبراج المراقبة… حُراس الصمت والنخيل :
على امتداد السور العتيق الذي كان يطوّق الطرف كقلادة من أمان، تناثرت أبراج المراقبة كعيونٍ لا تنام، تراقب الطرقات والأفق، وتنتظر إشارات الخطر لتوقظ الساكنين. بُنيت هذه الأبراج بفواصل منتظمة – كل برج يبعد عن الآخر قرابة 150 مترًا – في دقة هندسية لا تخطئها العين، وكأنها كانت تُقسم الليل والنهار بين الحراسة والطمأنينة.
بعض الأبراج جاءت دائرية، ملتفّة كحضن النخلة، والبعض الآخر كان مربعًا مستقيم الزوايا، بنيت حيثما كان السور مستقيمًا ..
وكلٌ منها له غايته، وله روحه.. وكان في الطرف أربعة أبراج دائرية على امتداد السور، تشمخ عند مداخل “الدراويز” الأربعة، تحرسها كما تحرس العين الجفن.
وفي كل برج كانت هناك مزاغل، تلك الفتحات الصغيرة التي تسمح للمراقب أن يُخرج بندقيته من خلف السور، دون أن يظهر، ليرصد كل من تجرأ واقترب ..
فتحات هندسية دقيقة، ضيقة من الخارج، متسعة من الداخل، كأنها أعين مدجّجة بالسهر والتأهب.
وكانت هناك أيضاً “المزاقل” – وهي نوافذ سفلى مفتوحة بخفاء، يُخرج منها الحارس سلاحه عند اشتداد الخطر، ويُصيب العدو في مقتل دون أن يُرى..
الأبراج لم تكن حجارة فحسب، بل كانت نبض قلوب الأهالي، ومن يراقب البرج من أهل البلدة كان يفعل ذلك بروحٍ تتقد دفاعًا عن الأرض والكرامة ، ولهذا كان كل برج يُنسب إلى العائلة أو الأسرة التي تتولّى حمايته .
فكل برج حكاية، وكل اسم عليه شهادة شرف.
- الدراويز… بوّابات الحنين :
أما بوابات البلدة الأربع – أو كما نُسميها “الدراويز” – فكانت دروبًا نحو الداخل، تُفتح مع أول الضوء، وتُغلق مع آخر صلاة المغرب . أبواب ضخمة، من خشب الأثل القوي، لا تهاب الريح ولا الطرقات المجهولة.
كانت تسمح للجِمال بالدخول وهي محمّلة بالحطب والمؤن، دون أن تُعيقها عتبة أو سقف، وكأنها تقول لأهلها: “مرحباً بعودتكم… أنتم في أمان”.
كان غلق البوابات يتم مع الغروب، وتظل الحراسة الليلية قائمة، يقف فيها رجال البلدة كالسد، فلا يُفتح الباب إلا لأمر طارئ، أو لرسول من الأمير.
ومن هنا، كانت الطمأنينة تسري في النفوس، وكان أهل الطرف ينامون قريري العين، لا تخيفهم هجمة ولا يزعجهم غرباء.
- الثَّلْم… المداخل السرّية :
لكن البلدة، كما كل القلاع الحكيمة، لم تكن تكتفي بالأبواب الظاهرة، بل خبّأت أسرارها في “الثَّلْم” – فتحات صغيرة مخفية بعناية في جدران السور، لا يعرفها إلا القلائل ، هذه المداخل السرّية لم تكن للخروج أو الدخول فحسب، بل كانت ممرات تستخدم عند الحاجة والضرورة .
بُنيت تلك الفتحات بطريقة مذهلة من الحصى، لا يمر منها إلا نفر قليل من الناس ،
–وفي كل ذلك عبقرية من أبناء البلدة الذين صاغوا أمنهم من الحصى والطين، وسخّروا الطبيعة لخدمة الأرض دون أن يتنازلوا عن يقظتهم.
وكانت فتحتا “الثَّلْم” في سور الطرف – واحدة في الشرق، والأخرى في الغرب – تُفتحان عند الحاجة، وتُغلقان إذا جدَّ خطر، . تُغطّى بالأغصان والتمويه، فلا يراها الغريب، ولا يعرفها العدو. وكأنها تقول: “أنا هنا… لكنني لا أراك”.
… وهكذا كانت الطرف، حاضرةً في الذاكرة، كأنها لم تغ !!
السور، والأبراج، والدراويز، والمصاليـت ( المزاقل ) ، وحتى الفتحات الصغيرة في الأسفل…
كل ذلك كان نسيجًا من الأمن والانتماء، نسجه أهل الطرف بعرقهم وأيديهم، وحرسوه بعيونهم وقلوبهم.
واليوم، حين نمشي بين أطلال الديرة القديمة، لا نحتاج إلى خريطة، بل إلى ذاكرة حيّة، تقودنا إلى كل زاوية، وتهمس لنا: “هنا كانت الحياة”.
- حارات وفرجان وبراحات الطرف القديمة :
عندما تجلس إلى أحد كبار السن من أهل الطرف، وتطلب منه أن يحدّثك عن “الديرة القديمة”، لا يكتفي بالوصف، بل يسافر بك في الزمن… يتنهد بعمق، يطرق برهة، ثم يفتح صندوق الذكريات كمن يفتح كتابًا فيقول:
“الله على أيام زمان… أيام قاسية، لكنها جميلة في نظرنا!”
هي ذكريات لا تعود، لكنها حاضرة في القلب، محفورة في تفاصيل الذاكرة، وكأن الزمن توقّف في أزقة تلك البلدة القديمة..
تغيرت الوجوه، وتبدلت الحارات، وصار الغرباء هم أهل الديار، والأهل توزعوا على أطراف المدينة الحديثة ولكن، يظل الحنين يسكن بين الطين والجص، في الزوايا التي حملت الخطى، وفي “الدواعيس” التي عرفنا فيها طفولتنا الأولى.

