
صحيفة همة نيوز : بقلم : أ. عبدالله بن حمد المطلق ..
جامع سيّاله… ذاكرة مكان وروح زمان..
استوقفني ذلك المسجد العتيق، جامع الطرف القابع في قلب براحة سيّالة، وكأن جدرانه تحفظ أنفاس المصلين ونداءات المؤذنين عبر السنين ، هامت بي الذاكرة إلى زمنه القديم، حين كان بعمارته الأحسائية الأصيلة يرمز إلى جمال التراث وعمق الجذور يوم الجمعة كان له طعم خاص ؛ مدخل واسع يستقبل جموع المصلين، وباب صغير يتسلل منه الإمام إلى محرابه في داخله عين ماء رقراقة، يجلب منها الماء للتوضؤ، كأنها شريان حياة يمتد من الأرض إلى قلوب العابدين .
أتذكر بعد الصلاة، ذلك المشهد المهيب : المصلون يفيضون من أبوابه إلى البراحة، بعضهم يعرّج على مقر الأمير محمد بن أحمد بن علي ال حبيل، الذي يفتح قلبه وبيته للسلام عليهم، وآخرون يتجهون إلى منازل أسر الطرف، حيث تُمد موائد الكرم وتُقدم القهوة العربية، استمرارًا لعادات ضيافة لا تنقطع.
وما تزال صورته ماثلة أمامي بمنارته الطويلة، شامخة كرمز للبناء التراثي الأصيل، وقد شيدها الرجل المعروف عبدالله بن سعد المرزوق (بوصبار)، فقاومت قسوة الطبيعة وعوادي الزمن رغم صغر حجم المسجد.
وفي إحدى السنوات، جاء إلى الطرف الرجل الجليل محمد بن عبدالمحسن آل سليم آل ملحم من الهفوف، رجل المبرات في زمن الشدة، زائرًا الأمير محمد بن أحمد آل حبيل ، كانت روابط المودة بين آل حبيل وآل ملحم وآل سليم تزيد متانة بزيارات ومجالس عامرة بالوفاء ، كعادة أهل الأحساء وفي أحد الأيام، حضر محمد بن سليم إلى الطرف ليتفقد أملاكه، فحلّ ضيفًا على آل حبيل، وحين حضرت الصلاة، قصدوا جميعًا جامع سياله هناك، لاحظ ابن سليم ضيق المكان بالمصلين، فسأل عن سبب عدم توسعته ؟
فأُجيب بأنه محاط بمنازل أهل البلدة ، عندها قال كلمته الكريمة: “راجعوا أصحابها، ومن أراد بيع بيته فأنا أشتريه.”
وبوكالة من الأمير محمد بن أحمد آل حبيل، تم شراء أحد البيوت بمائة ريال فضة فرانسي، ليُوقفه محمد بن عبدالمحسن آل ملحم لله تعالى زيادة في مساحة الجامع، فجاء نص الحجة الشرعية شاهدًا على النية الطيبة، ممهورًا بأسماء الشهود الشيخ حمد بن عبدالله ال شيخ ال مبارك وعبدالعزيز بن علي العيد، ومرجح كتابتها عام 1328هـ.
ولم تكن المشاعر غائبًة عن وصف المكان، فقد كان للمشاعر حضور وهذه كلمات من مشاعري كلمات سجعية يذكر فيها سيّاله ، وكأني أرسم بالكلمات ما تحمله مشاعري من عبق التاريخ وروح المكان:
يا سيّاله والمآذن في ســـــــــــــماكْ
كنها تحضن ســــــــحاب الغيم حاني
والجمعة تلمّ أهلك في رضـــــــــــاكْ
في جامع الطرف، صــــرحٍ للأمانِ
فيه عين الما تروّي من ظمـــــــاكْ
وبه ضيافة كرم أهل المـــــــــكانِ
ما طواه الوقت، بالعز احتــــــــواكْ
في قلوب الناس، ما غاب الحنانِ
وهكذا، بقي جامع سيالة، بعمارته وتاريخه، شاهدًا على تلاحم المجتمع وكرم رجاله، ومسرحًا لذاكرة لا تغيب عن قلب من عاش في ظلاله.
لكن هذا الجامع الكبير قاوم كل مظاهر الطبيعة نتيجة الامطار ، التي كانت تملأ براحة سياله عندما تهطل الامطار ويتجمع مياه الامطار فيها ، لكن يد الإنسان كان لها يد في إزالة هذا البناء التراثي المعماري الذي يرمز الى العمارة الأحسائية !.
وعندما شرع بهدمه من اجل بناء جامع جديد ، كان الجميع في حزن شديد !! ذاك الجامع الذي كان شامخا بدأ يتهاوى وكأنه لم يكن !!
وفرح الناس عندما شرع بالبناء ،وشيد الجامع من جديد وظل لفترة طويلة يقاوم الطبيعة وزحمة الناس ، ولكن تمضي السنين ويعاد للمرة الثانية بالشروع في هدمه وكنا حاضرين ، وكنا نشعر بالألم يعتصرنا عندما بدأت الات الهدم ، وكان من اصعب تلك اللحظات عندما راينا منارة ذلك الجامع تتهاوى بفعل قيام الات الهدم وهي تقوم بالهدم حتى تساوى بالأرض ، ولم احتفظ بذكرى هذا الجامع الا بلوحة الجامع الذي كتب عليها اسم الجامع اهديتها لمن له اهتمام بجمع التراث .
وبعد سنوات راينا الجامع وبشكله المعماري الجديد وبمنارته العالية التي تظل رمزا للمآذن التي عرفت بعلوها الشاهق .
..
شكرا للأستاذ عبدالله بن أحمد الملحم على هذا التوثيق ..

