الملاحم الصامتة ..

صحيفة همة نيوز : ماجد إبراهيم الغنيم ..

تتراءى لنا في قصص الحياة أحياناً ملامح بطولات لا تحمل أوسمة، بل تُكتب بمداد الصبر والتفاني.

إنها حكايات متشابهة في جوهرها، تروي صمود أفراد يواجهون قسوة الأيام بقلوبٍ عامرة بالإيثار.

هذه إحدى تلك الحكايات، قصة شابٍّ اختار أن يحمل أثقالاً لو وُضعت على الجبال لأضنتها، ليكون سنداً لعائلةٍ مزقها الفقر وفجعتها الأقدار.

فقد هذا الشاب، وهو الأخ الأكبر، والديه في حادثٍ مروّع، ليجد نفسه وحيداً في مواجهة مصيرٍ قاسٍ.

لم يمتلك رفاهية الانهيار أو الاستسلام، بل كان عليه أن يكون القوة الدافعة والسور الحامي لأخوته الصغار.

في ليلةٍ من الليالي، وبينما كان إخوته يلهون ببراءة الأطفال، همس في قرارة نفسه بكلماتٍ لم تكن مجرد صوت، بل كانت عهداً قطعَهُ على ذاته:

“أنا الكبير، وليس لهم بعد الله إلا أنا”. تلك الكلمات أصبحت بوصلة حياته، وغيَّرت مجرى الأيام له ولهم.

بدأ رحلة الكفاح، تاركاً خلفه كل لحظات الضعف ليذرف دموعه وحيداً بعيداً عن أعين من يحب.

كان يُخفي آلامه بصمت، وكلما اشتد عليه التعب والإرهاق، التفت إليهم بابتسامةٍ تُضيء وجهه، ابتسامةٌ أخفت خلفها مرارة الحياة وصعوباتها.

لم يسمح لهم أن يشاهدوا قسوة الأيام، ولم يدعهم يعانون، بل مهد لهم الطريق، طريقاً مفرشاً بالتضحية والعناء.

استمر في عطائه اللامحدود، حتى أدركه التعب وأضناه الألم.

كان كالغرفة الصغيرة التي تحيط بها الزهور والتفاصيل الجميلة، لكنها تحمل في طياتها قصصاً من الصبر والمثابرة التي لا تُروى.

وعندما حان الوقت، بعد أن عبد لهم الطريق ومهده، فتح لهم الباب وقال بصوتٍ يملؤه الحب والعزيمة:

“انطلقوا الآن، لقد عبدت لكم الطريق”.
هذه القصة ليست مجرد سردٍ لأحداث، بل هي ملحمة إنسانية تتجلى فيها أسمى معاني التضحية والإيثار.

إنها تذكير بأن الأبطال الحقيقيين ليسوا فقط من يخوضون المعارك الكبرى في ميادين القتال، بل هم أيضاً من يكافحون بصمتٍ ويتحملون الأعباء الجسام، ليضيئوا دروب من يحبون ويهبونهم الحياة.

ويصدق في حق هذا الأخ العظيم قول الله تعالى في كتابه الكريم:{ وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ۚ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (سورة الحشر: الآية 9).